العراقة و البيروقراطية.. والخيط الرفيع بينهما.. حكاية من التراث البريطاني

العراقة و البيروقراطية.. والخيط الرفيع بينهما.. حكاية من التراث البريطاني

هذه التدوينة في قسم: موليكيلو يتكلم جد July 4th, 2012

.

Audio clip: Adobe Flash Player (version 9 or above) is required to play this audio clip. Download the latest version here.

يُعرّف قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية كلمة Bureaucracy أو ‘بيروقراطية‘ بأنها إجراءات إدارية معقدة جدا!

هذه الإجراءات بالعادة لا تبدأ معقدة.. إلا أنها تكتسب صفة التعقيد مع مرور الزمن.. حيث ترث الإدارة إجراءاتٍ سابقة وتحافظ عليها دون أسباب مقنعة.. قبل أن تضيف إليها إجراءات جديدة.. فتصبح الاجراءات بمجملها من التعقيد لدرجة أنها تـُفقد العمل الهدف الذي بدأ من أجله..

البيروقراطية تجعل الحياة أصعب.. و الاجراءات المعقدة قد لا تكون مفيدة أو حتى ذات معنى في الكثير من الأحيان..
البيروقراطية هي تكلف و تعقيد لا مبرر حقيقي له..

.

على النقيض..
هناك العراقة.. والتي يُعرّفها قاموس المعجم الوسيط بـ الأصالة!
والأصالة تقتضي المحافظة على كل ما هو عتيق و المحافظة عليه.. بل والإعتزاز به.. حتى وإن كان هذا العتيق هو إجراءات أو عادات من الماضي قد لا تكون ضرورية في الحاضر..
العراقة هي دليل حضارة عتيدة.. وثقافة أصيلة.. و رقي معرفي..

.

.

.

المحافظة على الأصالة قد تؤدي إلى بيروقراطية.. والبيروقراطية قد تستمر بدعوى أنها عراقة..
والخيط الرفيع بينهما قد يصعب على الكثيرين رؤيته..

و بما أن بريطانيا هي وطن البيروقراطية.. و وطن العراقة أيضا.. سأورد في هذه التدوينة أمثلة من الواقع البريطاني على البيروقراطية و العراقة.. كما أراهما..

.

.

تاكسي لندن.. و التبن!

.

ينص البند 51 من قانون تنظيم مرور عربات النقل الخفيفة التي تجرها الخيول في لندن (والتي كانت بمثابة التاكسي حاليا) أوthe London Hackney Carriage Act والصادر في العام 1831م، ينص على أن صاحب العربة ملزم بحمل حزمة من التبن في مؤخرة العربة وذلك لإطعام خيول الـ hackney الهزيلة و التي كانت تستخدم لجر العربات في ذلك الوقت.

الغريب في الأمر أنه استمر العمل بهذا القانون حتى بعد اعتماد استخدام مركبات النقل الميكانيكية (السيارات) كعربات تاكسي في لندن في العام 1903م!

أي أن قائد سيارة التاكسي في لندن كان ملزما بحمل حزمة من التبن في مؤخرة سيارته، و في حال لم يلتزم بذلك كان يحصل على مخالفة!

بل والأسوأ من ذلك أن نفس القانون كان يلزم أصحاب عربات النقل بربط العربة أثناء الانتظار في صف عربات النقل taxi rank أمام الأسواق وغيرها.. فكان قائد سيارة التاكسي في لندن مضطرا لربط سيارته وهو ينتظر زبائنه وإلا تحصل على مخالفة!

كما أن الحكومة كانت ملزمة بتوفير سطول الماء التي تشرب منها الخيول عادةً في كل صف لعربات النقل!

استمر العمل بهذا القانون حتى العام 1931م!
حيث امتنع قائدوا سيارات التاكسي في ذلك العام عن الالتزام به لكونه غير منطقي!
ليدخلوا بعد ذلك في جدل قانوني كبير مع الحكومة لم ينتهي إلا في العام 1976م حين تم الغاء هذا القانون!

الالتزام بمثل هذا القانون طوال تلك الفترة يمثل بيروقراطية مقيته جدا في رأيي!
وبالمناسبة، يقال أن هناك قانونا مشابها في أستراليا ولم يلغَ حتى الآن!

ربما يهمكم أن تعرفوا أن فرنسا اعتمدت استخدام السيارات كعربات نقل بأجرة (تاكسي) في العام 1899م أي قبل بريطانيا بأربعة أعوام.. فيما لم تعتمد هذه الوسيلة في أمريكا حتى العام 1907م.

.

.

حراسة جدار لأكثر من ستين عاما!

.

هذه الواقعة شاهدتها في فيلم وثائقي عرض على قناة الـ BBC قبل أكثر من 5 سنوات.. لكني للأسف لم أعد أذكر اسم الفيلم، ولم أجد مصدر لها في الانترنت.. إلا أني سأرويها كما أذكرها..

في أحد الأزقة الضيقة في منطقة عادية جدا وسط لندن يوجد جدار عادي كباقي الجدران.. إلا أن هذا الجدار كان يحظى بحراسة طوال اليوم بواسطة رجل أمن مخصص فقط لهذه المهمة!

لماذا تتم حراسة هذا الجدار؟! .. لا أحد يعرف!
عقود تتوالى وحراس يتعاقبون على حراسة هذا الجدار.. دون أن يعرف أحد سبب ذلك!
لكن الذي كان معروفاً أنه بحسب مخططات توزيع رجال الأمن في المدينة والتي تعتمدها الشرطة توجد وظيفة مخصصة لحراسة هذا الجدار..

استمر هذا الوضع حتى العام 2005م.. حين قام رجل الأمن الشاب المكلف بحراسة الجدار بالتساؤل عن مبررات المهمة الموكلة إليه.. ثم قرر البحث في أصل هذه الوظيفة ومتى أقرت..

وبعد بحث مضني في سجلات الشرطة القديمة.. توصل أخيرا إلى حل لغز حراسة الجدار!

حيث وجد خطابا من مدير الشرطة إبان الحرب العالمية الثانية يأمر بتخصيص رجل أمن لحراسة نفس الجدار حيث أنه كان يدهن بطلاء جديد آنذاك وكان بعض الصغار يقومون بتخريب الطلاء بلمسه وكشطه!
واضح تماما أن أمر التخصيص كان يراد له أن يكون لفترة محدودة.. حتى يجف الطلاء!
إلا أنه على ما يبدو أن من تلقى الأمر قام بإدراج وظيفة مخصصة لذلك في مخططات توزيع رجال الأمن..

استمر ذلك لأكثر من ستين عاماً!
هنا تتجلى البيروقراطية بأبشع صورها..

بالمناسبة، تم إلغاء هذه المهمة في العام 2005م.. بعد أن أوضح رجل الأمن المكلف بحراسة الجدار الأسباب الحقيقية لمهمته وأقنع المسؤلين بعدم جدواها الآن..

.

.

حقيبة غلادستون

.

في عام 1860م خرج وزير مالية بريطانيا آنذاك السيد ويليام غلادستون من الباب الأمامي لمقر وزارة المالية 11 Downing Street وهو يحمل حقيبة جلدية حمراء يحمل بداخلها ميزانية العام وهو ذاهب لمناقشتها في البرلمان.. كان غلادستون قد أمر بصناعة هذه الحقيبة خصيصا لهذا الغرض..


ويليام غلادستون

منذ ذلك الوقت وحتى العام 2010م استخدم كل وزراء مالية بريطانيا المتعاقبين نفس الحقيبة لنفس الغرض (مع استثناءات بسيطه سآتي عليها)!
أي أن كل وزير مالية في يوم مناقشة الميزانية في البرلمان يخرج من باب 11 Downing Street متوجها للبرلمان وحاملا نفس الحقيبة! .. نفس الحقيبة استخدمت 150 عاماً!


حقيبة غلادستون


ونستون تشترشل يحمل نفس الحقيبة عندما كان وزيراً للمالية


وزير المالية الحالي (جورج أوزبورن) يحمل حقيبة غلادستون في العام 2010م

لم يلتزم وزيرا المالية جيمس كالاغن (1964 – 1967م) و غوردون براون (1997 – 2007م) باستخدام نفس الحقيبة.. بل قام كل واحد منهما باستخدام حقيبة جديدة خاصة به.. إلا أنه في كل مرة كان الوزير اللاحق يعود لإستخدام حقيبة غلادستون..


حقيبة جيمس كالاغن


غوردون براون يحمل حقيبته أمام باب 11 Downing Street

في نهاية العام 2010م تمت إحالة حقيبة غلادستون العريقة إلى التقاعد نظراً لاهترائها بشكل كبير أصبح معه استخدامها أمراً صعبا.. وهي الآن موجودة في المتحف الحربي البريطاني..
كما أمر وزير المالية الحالي بتصنيع حقيبة جديدة مطابقة لحقيبة غلادستون ليتم استخدامها عوضا عنها.. و قام بالفعل باستخدامها..


الحقيبة الجديدة


وزير المالية الحالي جورج أوزبورن يحمل الحقيبة الجديدة في العام 2011م

للمزيد حول الحقيبة و الميزانية البريطانية أنصحكم بمشاهدة هذا المقطع القصير جدا والمعد من قبل وزارة المالية البريطانية..

YouTube Preview Image

هذا الاجراء المتمثل باستخدام نفس الحقيبة طوال كل هذه الفترة.. أرى أنه اجراء عريق ويدل على الاعتزاز بتاريخ مشرق!
لا أرى فيه بيروقراطية أو تعقيد.. بل على العكس.. تبسيط رمزي جميل لأمر ضخم وهام..

بالمناسبة، العديد من الدول قامت باتباع هذه “العادة” البريطانية، لكن لا أعتقد أنهم وجدوا نفس الزخم..


في الهند


في كينيا

_________________

بقي أن أسألكم..
برأيكم.. أين يكمن الفرق بين البيروقراطية و العراقة؟

شوكرن! :rose:

_______________________________



  

Responses to “العراقة و البيروقراطية.. والخيط الرفيع بينهما.. حكاية من التراث البريطاني”

  1. a7la 7ala
  2. Bashar
  3. najla
  4. sarah almuhanna
  5. Feras Nawawi
  6. the desert voice
  7. mone ana
  8. abo sultan
  9. nouf abdulaziz
  10. H.A.H
  11. Mano0olia

ورى ما تسدح تعليق؟ .. ترى ببلاش..

معليش يا عزتي لك.. لازم تسجل دخولك عشان يمديك تسدح تعليقات.